بصر وبصيرة 2

هناك بصر وهناك بصيرة؛ البصر يريك ظاهر الأشياء وقد أبدع الله في صنع وتكوين العين التي يخرج منها البصر فكونها سبحانه من قرنية وشبكية وقزحية وطبقة خارجية ووسطى وخارجية وجفون ورموش وطبقة حساسة وعدسة وجهاز خاص للدموع وعضلات وأغشية وشفافية للعين وغيرها من تفاصيل تبين لنا عظمة الخالق في خلقه سبحانه ونعمه على خلقه التي لا تعد ولا تحصى (صنع الله الذي أتقن كل شيء).

أما البصيرة تريك حقائق الأشياء، فالمؤمن يملكُ بصيرةً، وأي إنسان يملكُ بصراً، فالمؤمن يرى الحقيقة.

خذ على هذا مثالاً: أب توفي وترك ثروة ضخمة، أحد أولاده الخبثاء استولى على الثروة بأكملها ، وأنشأ بيتاً فخماً جداً، واسعاً، مُزَيَناً، فرشه بأرقى الأثاث، وجعل فيه أجنحة، على البصر البيت جميل جداً، أما بنور البصيرة فهذا فيه اغتصاب، فيه عدوان، ترك خوته جميعاً بلا مأوى، وبلا دخل، جعلهم يتضورون جوعاً، هو تنعم وحده بهذا البيت الفخم، وحرم أخوته، فالبيت من حيث الشكل، والموقع والتزيينات، والأثاث مريح جداً، لكن من حيث أن صاحبه أكل المال الحرام، وحرم أخوته، وكان سبب شقائهم، هذا البيت بعين البصيرة قطعة من النار.

لذلك البصيرة هي نور القلب، فإذا قال العبد  في الدعاء كما قال نبينا صل الله عليه وسلم: (اللهم اجعل في قلبي نوراً)، فإن هذا النور في القلب هو البصيرة، هو للأرواح كالماء للأرض اليابسة، وهو للقلوب كالضياء للبصر.

جاءت في كتاب ربنا في قوله: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) [سورة يوسف: 108]، البصيرة في الدين التي من عرفها ورزقها وذاقها فإنه يسير في حياته على هدى من ربه، لا تختلط عليه الأمور، ولا تتشابه، يعرف الحق، (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [سورة الملك: 22].

هذه البصيرة هي المذكورة في قوله تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ)، يعني: مثل نوره في قلب عبده المؤمن، كَمِشْكَاةٍ، هذه الفتيلة التي توقد داخل الزجاجة تسمى مصباحاً، قال الله عز وجل: (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ)، هذه الفتيلة التي توقد مصباح داخل زجاجة، (الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) أي: في لمعانها ووضوحها وإنارتها، مشع (كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ) يستمد زيته (مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) بدون إشعال، يكاد زيتها لصفائه ينير من غير إيقاد، فكيف إذا أوقدت، إذا أوقد المصباح الذي يستمد من هذا الزيت، (نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [سورة النور: 35]، إذن هذه هي البصيرة في صفائها، وفي إنارتها، وفي سلامتها، وفي فائدتها، تبعد عن العبد سوء الفهم سواءً سوء الفهم عن ربه، فبعض الناس يسيء الظن بالله، (وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) [سورة الأحزاب: 10]، ولكن إذا كانت له بصيرة كان ظنه بالله حسناً، ومعرفته بالله طيبة، وكان فهمه للحلال والحرام صحيحاً، جيداً، كان عنده فقه في الأحكام، في المقابل من حرم البصيرة ذكر ربنا في الآية بعدها مثلاً له أيضاً فقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا).

هذا محروم البصيرة، هذا مطموس البصيرة، هذا الذي أظلم قلبه (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) [سورة النور: 39-40]، ومن يضلل الله فلا هادي له، وبعض الناس لا يرى الحق حقاً ولا يرى الباطل باطلاً، ولا يرى المعروف معروفاً، ولا يرى المنكر منكراً؛ لأن بصيرته قد طمست فيرى الحرام حلالاً، والحلال حراماً، والمنكر معروفاً، وهكذا يرى الحق باطلاً والباطل حقاً، قد انعكست فطرته، وانطمست بصيرته، فماذا تملك له، فتراهم يجادلون في المجالس في الأحكام التي أنزلها الله، وتراهم يطعنون في الحق وأهله، أين البصيرة؟ لا بصيرة!

لذلك المؤمن ببصيرته كل تصرف يفعله يتصور أنه  يقف بين يدي الله عز وجل، ليجيب عن سؤاله، الكافر يعيش لحظته بعينه، المؤمن يعيش المصير ببصيرته، شيء دقيق جداً، الدنيا محسوسة، الآخرة خبر آيات القرآن، أمامك امرأة، أمامك مركبة، أمامك بيت، أمامك طعام نفيس، الدنيا بشهواتها محسوسة، أما الآخرة أخبرك الله عنها فقط، لا ترى منها شيئاً، فإذا الإنسان بنور البصيرة, يرى المصير، يرى العاقبة، لذلك الشيء الذي يرقى بالإنسان عند الله أنه لا يتعامل مع بصره بل مع بصيرته ، الشارد عن الله يعيش لحظته، يعيش وقته، أينما وجد مغنماً اقتنصه، أينما وجد شهوة مارسها ، أينما وجد متعة مارسها، وينسى ما وراء ذلك، وهذا هو مرض العصر، الناس يعيشون لحظتهم، يعيشون وقتهم، ولا يفكرون بالمصير، هل هناك إنسان يستطيع أن يتفلت من الموت ؟ ماذا بعد الموت؟ ترى الإنسان منهمكاً في الدنيا إلى قمة رأسه، يشيد بيتاً فخماً، المسبح، الحديقة، ولكن هل تستطيع أن تبقى في هذا البيت إلى أبد الآبدين؟ لا بد من مغادرته إلى القبر، ماذا في القبر؟.

من المهم جدا جدا أن نعي جيدا أننا لابد أن نتحرك لا وفق البصر بل وفق البصيرة، لا وفق ظواهر الأشياء بل وفق بواطنها.

مستحيل أن يجتمع الحزن مع الإيمان بالله، الله موجود، سميع، غني، قوي، مجيب، محب، لم الحزن؟ لم الخوف؟ لم القلق؟.

فمن كان في قلبه هذه البصيرة, عاش حياة سعيدة، واثقاً بالله، واثقاً بنصر الله، واثقاً برحمة الله، واثقاً بتوفيق الله، واثقاً بعدالة الله، همه أن يطبق أمر الله، همه أن يكون على منهج الله المستقيم، وصراطه القويم، هذا همه.

هذه البصيرة يا عباد الله نور يقذفه الله تعالى في قلب العبد فيرزقه بصيرة في الأسماء والصفات، في أسمائه وصفاته، وفي أمره ونهيه، وفي وعده ووعيده.

صاحب البصيرة حتى لو لم يكن عنده كثير علم يميزه، فإذا رأى لباساً على امرأة فيه ألوان تخرج به، قد لا يعرف الأدلة بالتفصيل، لكنه بقلبه يعرف أن هذا الذي على هذه المرأة ليس هو الحجاب الذي أمر الله به؛ لأن الحجاب المفترض أن يستر المرأة، لا أن يجذب إليها الأنظار، تمر به مسألة مالية مسابقات على الهاتف يسحبون من الرصيد نتيجة المشاركة في المسابقة، والمكالمة لها قيمة، لتدخل في المسابقة قد تفوز وقد لا تفوز، وخمسة وسبعة وعشرة، والدقائق تضاعف، قد لا يكون عنده علم تفصيلي، لكن بقلبه بالبصيرة يقول: هذا ليس موافقاً لشرع الله، هذا قد يكون من القمار والميسر، فلأسأل ولأبحث، صفقة من الصفقات كذلك، ضميره ونفسه تقول له: ليس هكذا، لا عن وسوسة، فبعض الناس عندهم وسوسة يشك في الحلال الصرف، بعض الناس يرتاب في الحلال البيّن، موسوس، لكن هذا صاحب بصيرة لا تمر الأمور عنده هكذا، يتوقف وينظر، ويتدبر ويتأمل، ويتفكر، عنده بصيرة تشعره بأشياء، والبصيرة هذه تقوى وتضعف بحسب حال العبد وصلته بالله، وعلمه بكتاب الله وسنة رسول الله، وعبادته لله، وطاعته وذكره.

محصلة التفكر القويم البصيرة، فالبصيرة نور يقذفه الله في قلبك، يريك به حقائق الأشياء، يريك به التعرف على الله سبحانه وتعالى.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً﴾..

 

محبكم / خالد حسن عبد الكافي 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نصرة المظلوم

الإحسان