العفو والصفح

قرة عين المؤمن وطمأنينة قلبه تبدو واضحةً جليةً في تقواه لربه، فإن تقوى الله هي أساس كل صلاح وسلوان كل كفاح (ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله). 
عفا المواطن الحربي عن قاتل ابنه سلطان في ساحة القصاص بالطائف في وقتٍ همّ فيه السياف برفع يده لتنفيذ القصاص، وكان الحربي مهرولاً طالباً من السياف الانتظار فإذا به يفاجئ الجميع معلناً بصوت عالٍ عفوت عنك لوجه الله الكريم، وثنى بهذا العمل الذي قال عنه الحسن البصري: (أفضل أخلاق المؤمنين العفو)، رفض خمسة ملايين ريال قدمت له من أهل القاتل لقاء العفو، هذه القصة حدثت الخميس الماضي بين أظهرنا رجل يعفو عن قاتل ابنه ويرد مبلغاً من المال خمسة ملايين ريال، ليت من يلبس نظارة سوداء يرى بها تخبط حال أمتنا يستمع جيداً إلى هذه القصة ويعي أن الخير في الأمة إلى قيام الساعة (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) اللهم إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم أستر عوراتنا وآمن روعتنا، اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا.
أيها الناس المباركون:
هذا النبي صلى الله عليه وسلم الذي تتعطر الأفواه بالصلاة والسلام عليه يدمى من قومه فيسيل الدم من وجهه ويقول: (رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، ويكفي أنه صلى الله عليه وسلم عفا عن زعيم المنافقين عبد الله بن أبيّ، عجيب أمر هذا الرجل يترك أموالاً طائلة يستطيع أن يأخذها فيبني بها قصراً أو يكنزها ذهباً وفضة !! لا ليس هذا بعجيب لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً)، ولأن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه قال بلغنا أن الله تعالى يأمر منادياً يوم القيامة فينادي: من كان له عند الله شيء فليقم ، فيقوم أهل العفو فيكافئهم الله بما كان من عفوهم عن الناس.
عباد الله: العفو مظهر من مظاهر حسن الخلق.. العفو دليل على سعة الصدر حسن الظن.. العفو يثمر محبة الله عز وجل ثم محبة الناس.. أمان من الفتن وعاصم من الزلل ودليل على كمال النفس وشرفها تهدئة المجتمع والنشء الصالح لحياة أفضل، طريق نورٍٍ وهداية لغير المسلمين.
وعن عبدا لله بن عمر رضي الله عنهما قال: (اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرة) رواه أبو داود (فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً)، (إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفو عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا)، (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر).
ومن قصص العفو أن عبد الله هذا كان عدواً لدودا للمسلمين يتربص بهم الدوائر، ويحالف عليهم الشيطان ويحيك لهم المؤامرات، ولا يجد فرصة للطعن عليهم والنيل من نبيهم لا ينتهزها، وهو الذي أشاع قولة السوء على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وجعل المرجفين يتهامسون بالإفك حولها، ويهزون على أركان المجتمع الإسلامي هزاً الاتهام الدنيء وتقاليد الشرق من قديم تجعل عرض المرأة في الذروة من القداسة وتربط به كرامتها وكرامه أهلها الأبعدين والأقربين، ولذالك كان الألم قاسياً في نفس الرسول وأصحابه، وكانت الغضاضة من هذا التلفيق الجريء تملأ نفوسهم كآبه وغماً، حتى نزلت الآيات أخر الأمر تكشف مكر المنافقين وتفضح ما اجترحوا أم المؤمنين ونفاء صفحتها (إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خيراً لكم)، ولقد أقيم الحد على من كانوا مخالب القط في المأساة أما الجرثومة الشر فإنه نجا ليستأنف كيده للمسلمين وسوق الأذى لهم ما استطاع وكتب الله الفوز لرسوله وجنده وانحصر أعداءه في حدود أنفسهم بل لقد دخلت عليهم من أقطارها وانكمش ابن أبيّ ثم مرض ومات، بعدها ملأت رائحة نفاقه كل فج، وجاء ولده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب منه الصفح عن أبيه فصفح، ثم طلب منه أن يكفن في قميصه فسمح له إياه، ثم طلب منه أن يصلي عليه ويستغفر له، فلم يردّ له الرسول الرقيق العفو هذا السؤال بل وقف أمام جثمان الطعن في عرضه بالأمس يطلب له المغفرة من الله، لكن العدالة العليا حسمت الأمر كله فنزل قوله تعالى:  (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرةً فلن يغفر الله لهم).

ومما يتصل بحادثه الإفك أن قريباً لأبي بكر كان يعيش على إحسانه لم يتورع عن الخبط في عرض السيدة التي يكفله أبوها فنسي بذلك حق الإسلام وحق القرابة وحق الصنيع القديم مما أحفظ أبا بكر وجعله يحلف لأن يترك قريبه هذا ولا يصله كما كان يصله فنزل قوله تعالى: (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين) فعاد أبو بكر بعطائه  الأول قائلا: إني أحب أن يغفر الله لي.
فاتقوا الله رحمكم الله وارحموا إخوانكم واعرفوا لأهل الفضل فضلهم وعضوا عن المقصرين والقلوب مجبولة على حب من أحسن وتودد إليها فعفوا واصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم.

تتفاوت درجات الناس في الثبات أمام المثيرات، فمنهم من تسخفه التوافه فيستحق على عجل ، ومنهم من تستره الشدائد فيبقي على وقعها الأليم محتفظاً برجاحة فكرة وسجاحة خلقة.
ومع أن لطبع الأصلية في النفس دخلا كبيرا في أنصبة الناس من الحدة والهدوء والعجلة والأناة والكدر والنقاء إلا أن هناك ارتباطاً مؤكداً بين ثقة المرء بنفسه وبين أناته مع الآخرين وتجاوزه عن خطئهم، فالرجل العظيم حقاً كلما حلّق في آفاق الكمال اتسع صدره وامتد وعذر الناس من أنفسهم وألتمس المبررات لأغلاطهم؛ فإنّ أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته ثم قال: يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك ثم أمر له بعطاء، لست أبايعك على الإسلام فشرط علي (والنصح لكل مسلم ) فبايعته على هذا ورب هذا المسجد لي لنا الناصح لكم ثم استغفر ونزل).
أخي الحبيب: جلس ابن مسعود في السوق يبتاع طعامه فابتاع ثم طلب الدراهم وكانت في عمامته فوجدها قد حلت فقال: لقد جلست وإنها لمعي فجعلوا يدعون على من أخذها ويقولون: اللهم اقطع يد السارق الذي أخذها، اللهم افعل به كذا وكذا، فقال عبد الله: (اللهم إن كان حمله على أخذها حاجة فبارك له فيها، وإن كان حملة جراءة على الذنب فاجعله آخر ذنوبه).

وقال معاوية رضي الله عنه: عليكم بالحلم والاحتمال حتى تمكنكم الفرصة، وأتى عبد الملك بن مروان بأسرى ابن الأشعث فقال لرجاء بن حيوة: ماذا ترى؟ قال: (إن الله تعالى قد أعطاك ما تحب من الظفر فأعطِ الله ما تحب من العفو فعفا عنهم )، وقال مالك بن دينار: أتينا منزل الحكم بن أيوب ليلا وهو على البصرة أمير، وجاء الحسن وهو خائف فدخلنا معه عليه فما كنا مع الحسن إلا بمنزله الفراريج، فذكر الحسن قصة يوسف عليه السلام وما صنع به إخوته، فقال:باعوا أخاهم وأحزنوا أباهم وذكر ما لقي من كيد النساء ومن الحبس ومن ثم قال: أيها الأمير ماذا صنع الله به؟ أداله منهم ورفع ذكره وأعلى كلمته وجعله على خزائن الأرض فماذا صنع يوسف حين أكمل الله له أمره وجمع له أهله؟ قال: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين).

 

محبكم / خالد حسن عبد الكافي 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نصرة المظلوم

الإحسان