ترى عمن يحلو الحديث ؟

مهما تحدثنا فلن يكون حديث أجمل وأرقى من حديثنا عمن قال فيه الشاعر:

وأجمل منك لم تر قط عيني * و أكرم منك لم تلد النساء
خلقت مبرأ من كل عيب * كأنك قد خلقت كما تشاء

إنَّهُ محمد بنُ عبد اللهِ صلى الله عليه وسلم ، رسولُ اللهِ إلى العالمين ، وحجتُه على الخلق أجمعين .

محمد ، الذي اختاره الله جل جلاله لحملِ رايتهِ، والتحدثِ باسمهِ، وجعله خاتمَ رسلهِ ، وأثنى عليه فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) .

لقد رأى الصحابة رأيَّ العينِ كلَّ فضائلهِ ومزاياه، رأوا طُهرِهِ وعفتهِ ، رأوا أمانته واستقامتهِ ، رأوا شجاعته وبسالته ، رَأوا سُمُوه وحنانه .

أكثر أهل السير على أنه ولد يوم الثاني عشر من ربيع الأول عام الفيل، بعد الحادثة بخمسين يوما.

بل رأى كلَّ هذا أهل مكة ، الذين عاصروا ولادته وطفولته ، بما انطوت عليهِ من رجولةٍ مبكرةٍ .

لقد كانت قريشٌ تتحدثُ عمَّا أنبأتهم بهِ، وأذاعتهُ بينهم مرضعتهُ حليمة، حينَ عادت بهِ إلى أهلهِ .

لقد كانت حليمة تدرك أن هذا الطفلَ غيرُ عادي ، وأنَّهُ ينطوي على سرٍّ يعلمهُ الله، وقد تكشفهُ الأيام.

ما إن أخذت حليمةُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، حتى دَرَّ ثديها اللبن، فارتوى منهُ محمدٌ صلى الله عليه وسلم وابنُها الذي كانَ يبكي من الجوعِ لجفافِ ثدي أمِّه، ثم امتلأ ضرعُ راحلتها باللبنِ بعد أن كانَ يابساً، فشبعت هي وزوجها .. ثم أصبحت الراحلة نشيطةً قوية، ولما وصلت ديارها أخصبت الأرض وأربعت ، فلا تحل أغنامُ حليمةَ إلا وتجدُ مرعاً خصبا، فتشبعُ أغنامها ، حين تجوع أغنام قومها .

وأما شبابُهُ صلى الله عليه وسلم فيا لطهرِ الشباب .. وعندما حجَّ أكثمُ بن صيفي -حكيمُ العرب- ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهُو في سنِّ الاحتلام، قال لعمِّه أبي طالب: ما تظنُونُ به ؟ قال: نحسنُ بهِ الظن، وإنَّهُ لوفيٌّ سخي .. قال: هل غيرَ هذا ؟ قال: نعم، إنَّهُ لذوُ شدةٍ ولينٍ ، ومجلسٍ ركين، وفضلٍ متين .. قال: فهل غيرَ هذا؟ قال: إنَّا لنتيمّنُ بمشهدهِ، ونتعرّفُ البركةَ فيما لَمَسهُ بيده .

وأمَّا رجُولَتهُ فقد كانت ملءَ كلِّ عينٍ وأذنٍ وقلب .. لقد كانت رجولته مقياساً لقومه ..يقيسون بأخلاقه وتصرفاته كلَّ رُؤاهم عن الحقِّ والخير والجمال ، فهَاهُم ذا على وشكِ أن يقتتِلُوا في من يضعُ الحجرَ الأسودِ في مكانه، وأخيراً ألهَمهُم اللهُ تعالى إلى تحكيمِ أوَّلُ من يُقبلُ من بابِ الصفا، وما زالوا كذلك حتى أقبلَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم ، فما أن رَأوهُ حتى قالوا: هذا محمدٌ الأمين، رضينا به حكماً .

كانت حياته صلى الله عليه وسلم نقاءً وصدقاً، وعفافاً وطهراً، لم يُجَرِّبوا عليه كذباً ؟ لم يظلم إنساناً؟ لم يخُن صديقاً ولا عدواً؟ لم يكشف عورة؟ لم يخفر ذمة؟ لم يقطع رحماً؟ لم يتخل عن مروءة؟ لم يشتم أحداً؟ لم يشرب خمراً؟ لم يستقبل صنماً؟

شخصية فريدة .. جعلت سادةَ قومهِ يُسارِعُون إلى الاستجابة لدعوته ، كأبي بكرٍ وطلحةَ والزبير وعُثمانَ وغيرِهم، تاركين وراءهم كلَّ مجدٍ وجاه ، مستقبلينَ حياةً تمورُ بالأعباءِ وبالصعابِ .

شخصية فريدة .. جعلت ضعفاءَ قومهِ يلوذُونَ بحماه، ويَهرَعُونَ إلى رايتهِ ودَعوتهِ، وهم يُبصرُونَهُ أعزلَ من المالِ ومن السلاح، يَنزلُ بهِ الأذى، ويُطارِدُهُ الشرُ ، دُونَ أن يملكَ لهُ دفعاً .

إنها القدوة ، التي جعلت أتباعه يزيدُونَ ولا ينقُصُون، وهُو الذي يهتفُ فيهم صباحَ مساء، لا أملكُ لكم نفعاً ولا ضراً، ولا أدرِي ما يُفعلُ بي ولا بكم .

إنها القدوة ، التي تملأ القلوب يقيناً وعزماً .

لو أطلق الكونُ الفسيح ُلسانَه * لسرتْ إليك بمدحه الأشعارُ

لو قيل : مَنْ خيرُ العبادِ،لرَدَّدتْ * أصواتُ مَنْ سمعوا : هو المختارُ

لِمَ لا تكون؟ وأنتَ أفضلُ مرسلٍ * وأعزُّ من رسموا الطريق وساروا

ما أنت إلا الشمسُ يملأ نورُها * آفاقَنا ، مهما أُثيرَ غبارُ

لقد كان الصحابة يرونه بينهم صاحب رسالةٍ سامية ، لم يكن ليسعى إلى جاهٍ ولا مالٍ ولا سيادة .

لقد كانوا يرونه أواباً منيباً حتى اللحظةَ الأخيرةِ من حياته .. لا يكادُ النصفُ الأخيرُ من الليلِ يبدأُ ، حتى ينتفضَ قائماً، فيتوضأَ ويُناجيَ ربَّهُ فتتورم قدماهُ وهُو يصلي ، ويبكي وهو يُصلي .

لقد كانوا يرونه صلى الله عليه وسلم سيداً للمتواضعين، وإماماً للعافين.

لقد دانتِ البلادُ كُلَّها لدعوتهِ، ووقفَ أكثرَ ملوكِ الأرضِ أمامَ رسائِلِهِ التي دَعاهم بها إلى الإسلام، وجِلِينَ ضارعين، فما استطاعت ذرةٌ من زُهوٍ وكبرٍ أن تمرَّ بهِ ولو على بعدِ فراسخ، بل كانَ يمشي صلى الله عليه وسلم مع الأرملةِ والمسكينِ والعبد، حتى يقضي حاجته .

وحينَ رأى بعضُ القَادِمين عليهِ يَهابُونُهُ في اضطرابٍ ووجل، قال لأحدهم: (هَوِّن عليك، إنما أنا ابن امرأة كانت تأكلُ القَدِيدَ بمكة)

لقد ألقى كل أعداءِ دينهِ السلاح، ومدُّوا إليهِ أعناقهم ليحكمَ فيها بما يرى، ومعه عشرةُ آلافِ سيفٍ تتوهجُ يومَ الفتحِ فوق رُبى مكةَ، فلم يزد على أن قالَ لهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).!

بل كان من تواضعه ، أنه حرم نفسه رؤيةِ النصرِ الذي أفنى في سبيلهِ حياتَهُ .. فقد سارَ صلى الله عليه وسلم في موكبِ النصر يومَ الفتح، مطأطئاً رأسهُ ، حتى تعذرَ على الناسِ رُؤيةُ وجهه الأزهر، مُردداً بينهُ وبينَ نفسهُ ابتهالاتِ الشُّكرِ المبللةِ بالدموع، في حياءٍ وتواضعٍ لربِّهِ العليِّ الكبير، حتى وصلَ الكعبة، وأعمل في الأصنامَ معولَه ، وهُو يقولُ: (جاءَ الحقٌّ وزهقَ الباطل، إنَّ الباطلَ كان زهُوقا ) .

لقد كان صلى الله عليه وسلم : قائداً فذاً ، وعابداً منيباً ، وأباً عطوفاً ، وزوجاً ودوداً لطيفاً ، وصديقاً حميماً ، وقريباً كريماً ، وجاراً تشغله هموم جيرانه ، وحاكماً تملأ نفسَه مشاعرُ محكوميه ، ومع هذا كله فهو قائم على أعظم دعوة في التاريخ .

يحكي عروة بن مسعود لقريش فيقول :

(يا معشر قريش و الله لقد زرت كسرى في ملكه و قيصر في ملكه و النجاشي في ملكه فما رأيت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم محمدا أصحابه ، فوالله إنهم عنده لكأنما على رءوسهم الطير ، و إذا نطق ابتدروا إلى أمره ، و إذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، و ما بصق إلا وقعت في كف أحدهم فدلك بها وجهه ورأسه ، ووالله إنهم لا يرفعون أبصارهم إليه إجلالا له !!).

 

قال ﷺ : (و الذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه و ماله و ولده والناس أجمعين).

 

كيف يسوغُ للعاقل أن يرى هذه القدوة الحسنة ، والشخصية الفذة في شخص محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم لا يحذُو حذوه، ويسيرُ خلفه، ويقتدي بهديه؟ ويكونُ من حملةِ رسالتهِ، وحُماةِ دينهِ؟ .. وصدق الله: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) .

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نصرة المظلوم

الإحسان