الرواحل

جلس عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى جماعة من أصحابه فقال لهم: تمنوا، فقال بعضهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبًا أنفقه في سبيل الله وأتصدق، وقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة زبرجدًا وجوهرًا فأنفقه في سبيل الله وأتصدق، ثم قال عمر: تمنوا، فقالوا: ما ندري يا أمير المؤمنين، فقال عمر: أتمنى لو أنها مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، وحذيفة بن اليمان!. [المستدرك للحاكم]

فلله ما أحكم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين لم يتمنّ فضة ولا ذهباً، ولا لؤلؤاً ولا جوهراً ولا زبرجدا! ولكنه تمنى رجالاً من الطراز الممتاز الذين تتفتح على أيديهم كنوز الأرض، وأبواب السماء!.

تمنى -رضي الله عنه- رجالاً كأبي عبيدة عامر بن الجراح، الذي قال فيه النبي الأكرم والرسول الأعظم -صلى الله عليه وسلم-: “لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح“. [البخاري]

تمنى -رضي الله عنه- رجالاً كسالم بن معقل مولى أبي حذيفة، الذي قال فيه الحبيب المصطفى والنبي المجتبى -صلى الله عليه وسلم-: “الحمد لله الذي جعل في أمتي مثله“. [أحمد والبزار]

تمنى -رضي الله عنه- رجالاً أمثال معاذ بن جبل رضي الله عنه – الذي قال عنه الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-: “إن معاذ بن جبل يحشر يوم القيامة بين يدي العلماء برتوة“، يعني: يسبقهم برمية سهم. [أحمد]

عن عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “إنما الناس كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة” [متفق عليه].

 

من هو هذا الراحلة؟

الراحلة: هو ذلك الفرد النشط الحي القوي الذي يأخذ على عاتقه المسؤولية ويعمل وفق طاقاته وإمكانيته في سبيل إحياء الأمة.

ذلك الفرد الذي تصبح الفكرة همّه، تقيمه وتقعده ويحلم بها في منامه وينطلق في سبيلها في يقظته،الذي إن لم تكن لديه الوسائل الفعالة سعي في إيجادها ولو كان أمراُ مستحيلاُ،فهو يعيش من أجل عقيدته ويرضى بكل أذى في سبيلها ويبذل كل غال ورخيص

نحن في عصر أحوج ما نكون فيه بحاجة للرواحل..أحبتي كل منا حباه الله بمواهب وطاقات أولادنا كذلك حباهم الله بمواهب وطاقات ..كل منا في داخله كنز لا يريد أن يفتش عنه فضلا عن أن يعتني به ليكون له تأثير في الأمة..كل منا فتح الله له في مجال غير الآخر

قال نبينا صل الله عليه وسلم: (إِنَّ أَرْحَمَ أُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ ، وَإِنَّ أَقْوَاهُمْ فِي دِينِ اللَّهِ عُمَرُ ، وَإِنَّ أَصْدَقَهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ ، وَإِنَّ أَقْرَأَهُمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، وَإِنَّ أَفْرَضَهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَإِنَّ أَعْلَمَهُمْ بِالْحَلالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا ، وَإِنَّ أَمِينَ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ).

هنا رسولنا صل الله عليه وسلم يعلمنا كيف أن الله كما قسم الأرزاق بين الناس قسم المواهب، إن كانت الحيوانات قسم الله بينها المواهب ألا يكون ذلك للبشر؟ والله تعالى يقول: (ولقد كرمنا بني آدم..).

ونحن البشر هناك من فتح الله عليه في الذكاء اللفظي وآخر في الرياضي وذاك في الاجتماعي وغير ذلك..

فلذلك يجب علينا أن نكتشف مواضع القوة فينا وفي أولادنا ثم نسعى ونجتهد في تأهيل أنفسنا وأولادنا وأهلينا الذين يصلحون للقيام بالمهمات وبناء الحضارات، وتنهض بهم الرسالات، وتحيا بهم الأمم؛ فالمرء الكفء الصالح هو عماد الرسالات، وروح النهضات، ومحور الإصلاح.

عن معاوية بن قرة عن أبيه أن ابن مسعود -رضي الله عنه- كان يجني لهم نخلة، فهبت الريح فكشفت عن ساقيه، قال: فضحكوا من دقة ساقيه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “أتضحكون من دقة ساقيه؟! والذي نفسي بيده! لهما أثقل في الميزان من جبل أحد“. [ رواه الخطيب في تاريخ بغداد]

وكم من غلام في مقتبل العمر، ترى الرجولة المبكرة في قوله وعمله وتفكيره وخلقه. من ذلك أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مر على ثلة من الصبيان يلعبون فهرولوا وهربوا، وبقي صبي مفرد في مكانه، هو عبد الله بن الزبير رضي الله عنه -، فسأله عمر: لِمَ لَمْ تعدُ مع أصحابك؟ فقال الطفل عبد الله بن الزبير الذي تلمع فيه الرجولة: يا أمير المؤمنين لم أقترف ذنباً فأخافك، ولم تكن الطريق ضيقةً فأوسعها لك!.

حاصر خالد بن الوليد ( الحيرة ) فطلب من أبي بكر مدداً، فما أمده إلا برجل واحد هو القعقاع بن عمرو التميمي وقال: لا يهزم جيش فيه مثله، وكان يقول: (لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف مقاتل!).
ولما طلب عمرو بن العاص المدد من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في فتح مصر كتب إليه : (أما بعد : فإني أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف : رجل منهم مقام الألف : الزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد)..

 

إن رجلاً واحداً قد يساوي مائة، ورجلاً قد يوازي ألفاً، ورجلاً قد يزن شعباً بأسره، وقد قيل: رجل ذو همة يحيي أمة.

يُعد بألف من رجال زمانه …لكنه في الألمعية واحد.

أعِدَّ ما شئت من معامل السلاح والذخيرة، فلن تقتل الأسلحة إلا بالرجل المحارب، وضع ما شئت من مناهج التعليم والتربية؛ فلن تقوم إلا بالرجل الذي يقوم بتدريسه، وأنشئ ما شئت من لجان؛ فلن تنجز مشروعاً إذا حُرمتَ الرجلَ الغَيور! ذلك ما يقوله العقل، ويصدقه الواقع.

إن القوة ليست بحد السلاح بقدر ما هي في قلب الجندي، والتربية ليست في صفحات الكتاب بقدر ما هي في روح المعلم، وإنجاز المشروعات ليس في تكوين اللجان بقدر ما هو في حماسة القائمين عليها.

ليس الرجال بأسنانهم ولا بأموالهم ولا بأجسادهم ولا بجاههم، الرجال بأعمالهم وإنجازاتهم، الرجال بأخلاقهم، الرجال بمروءاتهم، الرجال بمبادئهم، الرجال بهممهم وطموحاتهم، الرجال بثباتهم وتضحياتهم.الرجال بوضوح أهدافهم

الرجولة قوة نفسية تحمل صاحبها على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، تحمله على معالي الأمور، وتبعده عن سفسافها، قوةٌ تجعله كبيرًا في صغره، غنيًا في فقره، قويًا في ضعفه؛ قوةٌ تحمله على أن يعطي قبل أن يأخذ، وأن يؤدي واجبه قبل أن يطلب حقه؛ يعرف واجبه نحو نفسه، ونحو ربه، ونحو بيته، ودينه، وأمته.

(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)

 

ألا ما أحوج الأمة اليوم إلى رجال يحملون همها، ويعملون بإخلاص لها، يؤمنون بقضيتها، يحبونها وشعبها، لا يبيعون شعوبهم وأوطانهم وبلادهم وقضاياهم.

ولن تترعرع الرجولة الفارعة، ويتربى الرجال الصالحون، إلا في ظلال العقائد الراسخة، والفضائل الثابتة، والمعايير الأصيلة، والتقاليد المرعية، والحقوق المكفولة.

ولم تر الدنيا الرجولة في أجلى صورها وأكمل معانيها كما رأتها في تلك النماذج الكريمة التي صنعها الإسلام على يد رسوله العظيم، من رجال يكثرون عند الفزع، ويقلون عند الطمع لا يغريهم الوعد، ولا يلينهم الوعيد، لا يغرهم النصر، ولا تحطمهم الهزيمة.

 

محبكم / خالد حسن عبد الكافي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نصرة المظلوم

الإحسان