شكر النعم

روي أن عروة بن الزبير رضي الله عنه أنه عندما أصيبت قدمه بالغرغرينة واستقر رأي الأطباء على بترها ، أُمر بشرب شراب أو أكل شيء يذهب عقله قال : (إن كنتم لا بد فاعلين فافعلوا ذلك وأنا في الصلاة فإن لا أحس بذلك ولا أشعر به) ، قال : فنشروا رجله من فوق الآكله من المكان الحيَّ احتياطاً أنه لا يبقى منها شيء وهو قائم يصلي فما تصور ولا اختلج فلما انصرف من الصلاة عزّاه الوليد في رجله.
ولما رأى رجله وقدمه في أيديهم أو في الطست دعا بها فتناولها فقلبها في يده ثم قال : (أما والذي حملني عليك أنه ليعلم أن ما مشيت بك إلى حرام) ، أو قال : إلى معصية . ثم أمر بها فغسلت وحنطت وكفنت ولفت بقطيفه ثم أرسل بها إلى المقابر .

وكان معه في سفره ذلك ابنه محمد ، ودخل محمد اصطبل دواب الوليد ، فرفسته دابة فخر ميتاً . فأتى عروة رجل يعزيه ، فقال : إن كنت تعزيني برجلي فقد احتسبتها . قال : بل أعزيك بمحمد ابنك ، قال : وماله ؟ فأخبره ، فقال :- دققوا هنا- (اللهم أخذت عضواً وتركت أعضاء ، وأخذت ابناً وتركت) أبناءًا . فما سمع منه شيء في ذلك حتى قدم المدينة فلما قدم المدينة . أتاه ابن المنكدر ، فقال ، كيف كنت ؟ قال (لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً) وقال : اللهم إنه كان لي أطراف أربعة فأخذت واحداً وأبقيت لي ثلاثة فلك الحمد ، وكان لي بنون أربعة فأخذت واحداً وأبقيت لي ثلاثة فلك الحمد وأيم الله لئن أخذت لقد أبقيت ولئن ابتليت لطالما عافيت..

يالله وهل هناك درس في الشكر والحمد مثل ذلك الحمد والشكر.

العجب كل العجب إلى من يصاب بأقل من ذلك، فلا تجد في نفسه إلا الضجر والجزع والعياذ بالله

وصدق الله إذ يقول (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ) يقول الضحاك: هو بخيل منوع للخير، جَزُوع إذا نـزل به البلاء، فهذا الهلوع.

وقوله: (إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا) يقول: إذا قلّ ماله وناله الفقر والعدم فهو جزوع من ذلك، لا صبر له عليه

يجزع من أقل شيء يصيبه.. يعني مثلا لو انقطع عليه الماء وهو يغتسل يتضجر ويسخط ويغضب ،والمشكلة الأشد من ذلك أنه ينسى أنه يسرف في الماء عند الغسل،ينسى الكميات الهائلة التي يستخدمها في الغسل، وينسى أن الله مقت الإسراف لدرجة أنه قال سبحانه (إنه لا يحب المسرفين)، ينسى أنه قد فعل ذنبا، يقول أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (يَغْسِلُ، أوْ كَانَ يَغْتَسِلُ، بِالصَّاعِ إلَى خَمْسَةِ أمْدَادٍ، وَيَتَوَضَّأ بِالمُدِّ). [متفق عليه]. والمد: عبارة عن نصف لتر والصاع اثنين من التر، وفوق ذلك النسيان لا يرحم من كان سببا في انقطاع الماء، صغيرا كان أم كبيرا وهذا نتاج طبيعي لمن يتضجر (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا(19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ).

ومع كل ذلك من الضجر إلا إنه ينسى إذا عاش في رغد عيش:

ينسى أن الله خلقه من عدم (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا).

ينسى أن الله وهبه ألوان شتى من الأرزاق (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ).

ننسى نعمة الخلق والرزق والحياة والعافية والذي والطعام والشراب والكساء والإيواء والسمع والبصر والعقل والحديث.

ننسى نعمة العلم والمشرب والمأكل ،و(علمك ما لم تكن تعلم )والتفضيل وفضلك على كثير ممن خلق تفضيلا، والتسخير سخر لنا ما في السموات وما في الأرض، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنه.

وأيضا نعمة الأمن والآمان (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)، (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) ، وهنا الله قال نسي ما كان يدعو إليه من قبل.

ويقول الله تعالى: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ). { أعرض }: عن الشكر { وناء بجانبه }: ثنى عطفه متبختراً.

(وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه..) الآية.

إن كل ذلك يتطلب منا أن نتعرف على مستويات الشكر لله تعالى

فالشكر له مستويات ثلاث :

أول مستوى : أن تعرف النعمة ، لأن معرفة النعمة أحد أنواع الشكر ، هناك نعم كثيرة جداً مألوفة ، لكن هذه الألفة لهذه النعم ينبغي ألا تجعلنا ننساها .

إنسان عنده منزل ملك ، هذه نعمة كبيرة جداً ، لكنها مألوفة عند الناس ، فحينما تكون مألوفة يتوهم الإنسان أنها ليست نعمة ، لكن لو كان العكس لغضب الإنسان وزمجر ، نعمة أنك تتنعم بصحتك ، بأجهزتك ، بأعضائك ، بجوارحك ، بحواسك الخمسة ، نعمة أنه لك مأوى ، فكلما نقلت المألوفات إلى النعم زادك الله نعماً وكرمك ، هذا المستوى الأول ، أن تعرف أنها نعمة ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا ، وَسَقَانَا ، وَكَفَانَا ، وَآوَانَا ، فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ وَلَا مُؤْوِيَ)

نرى ونسمع ماذا يحل في إخوتنا في فلسطين وفي سوريا وفي العراق ، نعمة المأوى ، نعمة السلامة

المستوى الأعلى : أن يمتلئ القلب امتناناً لله عز وجل ، دون أن تشعر تلهج بحمد الله ، يا رب لك الحمد .

المستوى الأعلى والأعلى : أن تقابل هذه النعم بعمل صالح ، بخدمة عباده ، يؤكد هذا المعنى قوله تعالى : ( اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا )

أما الشكر الحقيقي هو ما ترجم إلى عمل، يقول الله عز وجل في حديث قدسي :

( أهل ذكري أهل مودتي ، أهل شكري أهل زيادتي ، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي ، إن تابوا فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب ، الحسنة عندي بعشرة أمثالها وأزيد ، والسيئة بمثلها وأعفو ، وأنا أرأف بعبدي من الأم بولدها… ) [ رواه البيهقي والحاكم عن معاذ، والديلمي وابن عساكر عن أبي الدرداء ].

وفي حديث صحيح عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ :

( مَنْ لَمْ يَشْكُرْ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرْ الْكَثِيرَ ، وَمَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللَّهَ ، التَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ ، وَتَرْكُهَا كُفْرٌ ، وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ ) [رواه الإمام أحمد عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ].

 

محبكم / خالد حسن عبد الكافي 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نصرة المظلوم

الإحسان