التماس العذر
هل قلوبنا طهرت من أدرانها، أم مازال من الدرن ما لم نستطع على إزالته بعد؟
هل نحن بصدق نطبق حديث رسولنا صلى الله عليه وسلم : (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)؟
هل توجيه العتاب لذواتنا يفوق توجيه العتاب للآخرين؟
هل انتصارُنا لأنفسنا نقدمه على إنصاف الآخرين من حيث لا نشعر؟
نشأنا وتعلمنا ورددنا كثيرا: “يا أخي إلتمس لأخيك سبعين عذرا“.. فما هو حقيقة تطبيق هذه المقولة في حياتنا؟
هذه مقولة لجعفر بن محمد حيث قال: (إذا بلغك عن أخيك الشيء تنكره فالتمس له عذراً واحداَ إلى سبعين عذرا، فإن أصبته وإلا قل: لعل له عذرا لا أعرفه)
سبعون عذرا كثييير جدا!!.. نحن نرضى بعذرين أو ثلاثة.. لكن هل حقا سنلتمس العذر للآخرين؟
قد يقول قائل: لماذا دائما أنا الذي ألتمس والآخرين لا يلتمسون؟.
أقول.. كلما تعرفت على الله وهدي نبيه صلى الله عليه وسلما، كلما يتضاءل عنك هذا السؤال.
التماس العذر للآخرين موضوع نحتاجه جميعا.. فليس أروح للمرء ولا أطرد لهمومه، من أن يعيش وهو يلتمس الأعذار للناس.. يقول: عنك فلان كذا.. هل تعلم ماذا يقول عن ولدك؟ هل تعلم بماذا أساء إليك؟.. وإذا رضينا لأنفسنا بسماع كل ما يقوله الناس عنا دون التثبت من قول القائل، بحجة أن الناقل ثقة تقطعت الأوصال والمحبة والأخوة! يقول تعالى: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).
قصة الشافعي: ذكر أبو نعيم الأصبهاني موقفاً جميلاً بين الإمام الشافعي وتلميذه الربيع بن سليمان، أنَّ الربيع قال: “مرض الشافعي فدخلت عليه. فقلت: يا أبا عبد الله! قوى الله ضعفك، فقال: يا أبا محمد لو قوَّى الله ضعفي على قوتي أهلكني! .. فهنا الرجل كأنه يدعو على الشافعي بالهلاك ـ أهل اللغة يفهمون معنى العبارة جيدا.. ـ ولكن استدرك الرجل فقال قلت: يا أبا عبد الله ما أردت إلا الخير، فقال: لو دعوت الله علي لعلمت أنك لم ترد إلا الخير!)… وهذا من كثر حسن الظن بأخيه والتماس العذر بالكلمة التي قالها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (..وَلاَ تَحَسَّسُوا ، وَلاَ تَجَسَّسُوا ، وَلاَ تَحَاسَدُوا ، وَلاَ تَدَابَرُوا ، وَلاَ تَبَاغَضُوا ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا..) بماذا بدأ نبينا صلى الله عليه وسلم (ولا تحسسوا)!
قد نغضب على الصديق ونقاطعه بسبب موقف! ولكننا نجهل الأسباب المحيطة بهذا الموقف. قد نغضب من القريب ونقاطعه بسبب تصرف! قد لا يكون مقصوداً، وربما أن هذا التصرف قد يكون اجتهاداً خاطئاً من قبل الآخر.
قد نغضب من المسؤول أو الرئيس أو المشرف بسبب تصرفه في فورة حماسته للعمل وما كان قاصداً لإهانتنا ولكن حماسته للعمل جرته إلى ما ظننا أنه إهانة.
صحيح أن الفارق بين التصرف الغاضب وبين الإهانة قد يكون دقيقاً أو يصعب تمييزه، ولكن هذا يجب ألا يفقدنا المقدرة على الهدوء والاتزان والنظر إلى الموضوع بالحكمة.. وأن ننظر إلى الجانب الايجابي في بعض المواقف، صحيح أن مساحة الزمن قد تكون ضيقة ومن ثم لا يجد المرء وقتاً كافياً للتأمل وتحليل الموقف، ولكن الصحيح أيضاً أننا لو استطعنا ضبط النفس لاستيعاب الموقف ومن ثم تحليله ومعرفة نتائجه لكان الأمر أفضل ولكانت ردة الفعل مبنية على واقع حقيقي وليس على انفعال وهمي.
علينا أن نعطي للصديق، وللقريب، وللجار وللمسؤول فرصة للعذر ما وسعنا ذلك وألا نبني أحكاماً عاجلة من شأنها أن تؤثر، أو تبتر العلاقة بأولئك لمجرد أننا أسأنا الظن أو سمعنا خطأ.. أو فسرنا تفسيراً غير سوي بحجة أننا ندافع عن كرامتنا.
والحقيقة أننا قد نخسر أولئك وقد نخسر معهم الكرامة أيضاً
تأن ولا تعجل بلومك صاحبًا .. … .. لعل له عذرًا وأنت تلوم
أيضا: تجنب الحكم على النيات.. فلان يقصد كذا وذاك يقصد كذا..
عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ ، قَالَ : سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ يُحَدِّثُ ، قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْحُرَقَةِ ، مِنْ جُهَيْنَةَ ، قَالَ : فَصَبَّحْنَاهُمْ ، فَقَاتَلْنَاهُمْ ، فَكَانَ مِنْهُمْ رَجُلٌ ، إِذَا أَقْبَلَ الْقَوْمُ كَانَ مِنْ أَشَدِّهِمْ عَلَيْنَا ، وَإِذَا أَدْبَرُوا كَانَ حَامِيَتَهُمْ ، قَالَ : فَغَشِيتُهُ ، أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ ، قَالَ : فَلَمَّا غَشِينَاهُ ، قَالَ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصَارِيُّ ، وَقَتَلْتُهُ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ : (يَا أُسَامَةُ ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ؟ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا مِنَ الْقَتْلِ ، فَكَرَّرَهَا عَلَيَّ ، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ إِلاَّ يَوْمَئِذٍ). [متفق عليه].
هذا وقد ظهر من الرجل المقتول كل الدلائل التي تثبت أنه متعوذا .. أفبعد ما يرفع عليه السيف يقول لا إله إلا الله؟ واضحة ظاهرة بكل تأكيد .. يأتي الرد من نبينا صلى الله عليه وسلم: يَا أُسَامَةُ ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ؟
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا، وأنت تجد لها في الخير محملاً “..
وهذا أبو دجانة رضي الله عنه: دخلوا عليه في مرضه ووجهه يتهلل! فقالوا له: ما لوجهك يتهلل؟فقال: (ما من عملِ شيءٍ أوثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلَّم فيما لا يعنيني، وكان قلبي للمسلمين سليمًا).
ومن حِكَم الفاروق رضي الله عنه: “أعقل الناس أعذرهم للناس“.
قال سفيان بن حسين: ذكرت رجلاً بسوء عند إياس بن معاوية، فنظر في وجهي، وقال: أغزوتَ الرومَ؟ قلت: لا، قال: فالسِّند والهند والترك؟ قلت: لا، قال: (أفَتسلَم منك الروم والسِّند والهند والترك، ولم يسلَمْ منك أخوك المسلم؟! قال: فلَم أعُد بعدها). [البداية والنهاية لابن كثير]
سَامِحْ أَخَـاكَ إِذَا وَافَاكَ بِالْغَلَــطِ * * * وَاتْرُكْ هَوَى الْقَلْبِ لا يُدْهِيْكَ بِالشَّطَطِ
فكم صَدِيْقٍ وفيٍّ مُخْـلِصٍ لَبِــقٍ * * * أَضْحَى عَدُوًّا بِـــمَا لاقَاهُ مِنْ فُرُطِ
فَلَيْسَ فِي النَّاسِ مَعْصُوْمٌ سِوَى رُسُلٍ * * * حَمَاهُـمُ اللهُ مِـنْ دَوَّامَـةِ السَّقَـطِ
أَلَسْتَ تَرْجُـوْ مِنَ الرَّحْمَنِ مَغْفِـرَةً * * * يَوْمَ الزِّحَـامِ فَسَامِحْ تَنْجُ مِنْ سَخَـطِ
لو أن كل واحد منا عند صدور فعل أو قول من أخيه وضع نفسه مكانه لحمله ذلك على إلتماس العذر بالآخرين، وقد وجه الله عباده لهذا المعنى حين قال سبحانه: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} [النور:12]. وأشعر الله عباده المؤمنين أنهم كيان واحد ، حتى إن الواحد حين يلقى أخاه ويسلم عليه فكأنما يسلم على نفسه: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيت لعلكم تعقلون} [النور:61].
وقال أبو حاتم بن حبان البستي في روضة العقلاء (ص:131): (الواجبُ على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس، مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه؛ فإنَّ من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره أراح بدنَه ولم يُتعب قلبَه، فكلَّما اطَّلع على عيب لنفسه هان عليه ما يرى مثله من أخيه، وإنَّ من اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمي قلبه وتعب بدنه وتعذَّر عليه ترك عيوب نفسه).
إن التماس العذر بالناس يحتاج إلى كثير من مجاهدة النفس لحملها على ذلك، خاصة وأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، ولا يكاد يفتر عن التفريق بين المؤمنين والتحريش بينهم، وأعظم أسباب قطع الطريق على الشيطان هو التماس العذر بالمسلمين.
اللهم بصرنا بعيوبنا ونق صدورنا وقلوبنا واجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر واختم بالصالحات أعمالنا .
رزقنا الله قلوبًا سليمة، وأعاننا على التماس العذر بإخواننا…
تعليقات
إرسال تعليق