الإحسان

 


يقول الله تبارك وتعالى: (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم .. لم يقل أكثر عملا لم يقل أو أيكم أخير عملا ..بل قال سبحانه أيكم أحسن عملا).

جعل ربنا الإحسان مقياس التميز بيننا، وقال سبحانه: (للذين أحسنوا ..)..ماذا جزاءهم يارب؟.. (الحسنى وزيادة) الجنة ورؤية الله سبحانه، ويقول سبحانه (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان )يقول ابن زيد: هل جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يُحسن إليه في الآخرة؟

ويقول تعالى: (إن المتقين في جنات وعيون ءاخذين ما ءاتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين).

فالمعذب يوم القيامة على ماذا يندم؟.. هل يندم على أنه لم يكن من المتقين؟ أو يندم على أنه لم يكن من الصابرين؟ أو الشاكرين ؟كلا: (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).

إن الله كتب الإحسان على كل شيء، قد نعجب لهذا العموم، بأن يشمل الإحسان كل شيء! بدءاً من عباداتنا، وانتهاءً بصناعاتنا، فالإحسان هو الدين كله، يقول نبينا صلوات الله وسلامه عليه: (إِنَّ الله كتبَ الإِحسانَ على كل شيء، فإِذا قَتَلتم فأَحسِنوا القِتْلة، وإِذا ذَبَحْتُم فأحسنوا الذَّبحَ) أي: أن الإحسان قد وصل حد الاحسان في ذبح الشاة.

 وهل يُتَصوَّر أن في القتل إحساناً؟

إن أردت أن تقتل حيواناً فينبغي أن تحسن حتى في القتل، إن أردت أن تذبح حيواناً شرع لك ذبحه، فينبغي أن تحسن الذبح.

الإحسان يشمل كل شيء، فهو مفهوم شمولي واسع جداً، من هنا جاءت هذه الآيات العديدة، التي تكاد تبلغ عشر آيات، تتحدث عن أن المحسنين يحبهم الله عز وجل، والله معهم، ولهم الجنة:

(والله يحب المحسنين)

(إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً)

هذه الآية تشير إلى إتقان العمل وإحسانه، والنبي عليه الصلاة والسلام سئل فأجاب:

(سئل يا رسول الله ما الإحسان؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)

يحدثنا نبينا عن كيف تكون محسناً؟..

اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، المحسن هو الذي يبالغ في إتقان عمله وإجادته، فإن لم يبلغ المرء هذه المرتبة من معرفة الله، فلابد من المرتبة الثانية اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. إما أنك ترى أن الله يراك، وإما أن تعلم أن الله يراك، إن لم تكن في المرتبة الأولى فلا أقل من أن تكون في المرتبة الثانية، المرتبة الثانية هي الشعور باطلاع الله تعالى ورقابته عليك، وعلى كل شيء، قال تعالى:

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

ربنا سبحانه تحدث عن صنعه في الكون فقال: (صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون) وطلب أن يفتش الناس عن مأخذ في هذه الصناعة فقال: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير) سبحانه،(أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين).

فلذلك جعلنا ربنا خلفاء له في الأرض حتى نحسن في كل شيء لذلك قال نبينا صلوات الله وسلامه عليه (إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته).

ديننا دين عظيم أمر بالإحسان في كل شيء..

والقاعدة الجامعة في قوله تعالى: (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها)

  • الإحسان في إخلاصنا لله وفي صلاتنا: (من توضأ فأحسن وضوءه ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، صادقا من قلبه فتح الله له ثمانية أبواب من الجنة يدخلها من أي باب شاء) وفي جميع عبادتنا الشعائرية والتعامليه ..الشعائرية.
  • الإحْسَان إلى الوالدين: جاءت نصوص كثيرة تحثُّ على حقوق الوالدين وبرِّهما والإحْسَان إليهما قال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا).

قال القرطبي: “قال العلماء: فأحقُّ النَّاس بعد الخالق المنَّان بالشُّكر والإحْسَان والتزام البرِّ والطَّاعة له والإذعان مَن قرن الله الإحْسَان إليه بعبادته وطاعته، وشكره بشكره، وهما الوالدان، فقال تعالى: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ)”.

قال الرَّازي: “أجمع أكثر العلماء على أنَّه يجب تعظيم الوالدين والإحْسَان إليهما إحسانًا غير مقيَّد بكونهما مؤمنين؛ لقوله تعالى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)”.

  • الإحْسَان إلى الجار: عن أبي شُريح الخُزاعي أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت)، ويكرم جاره بالإحسان إليه وكف الأذى عنه، وتحمل ما يصدر منه، والبشر في وجهه، وغير ذلك من وجوه الإكرام.
  • الإحْسَان إلى اليتامى والمساكين: ومِن الإحْسَان إلى اليتامى والمساكين المحافظة على حقوقهم والقيام بتربيتهم، والعطف عليهم، ومدُّ يد العون لهم، قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ)، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أنَّ رجلًا شكا إلى رسول الله قسوة قلبه، فقال: (امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين).
  • الإحسان في المعاملات التجارية: قال عليه الصلاة والسَّلام: (رحم الله سهل البيع وسهل الشِّراء
  • الاحسان في توفية الدَّين: ومِن الإحْسَان فيه حسن القضاء، وذلك بأن يمشي إلى صاحب الحقِّ، ولا يكلِّفه أن يمشي إليه يتقاضاه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم أحسنكم قضاءً).
  • الإحْسَان إلى المسيء: ومِن أجلِّ أنواع الإحْسَان الإحْسَان إلى مَن أساء إليك بقولٍ أو فعلٍ. قال تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)، ومن كانت طريقته الإحْسَان، أحسن الله جزاءه: (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ)، وذكر الهرويُّ أنَّ مِن منازل إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين (الفتوَّة)، وقال: “هي على ثلاث درجات، الدَّرجة الأولى ترك الخصومة، التَّغافل عن الزلَّة، ونسيان الأذيَّة. والدَّرجة الثَّانية أن تقرِّب مَن يقصيك، وتكرم مَن يؤذيك، وتعتذر إلى مَن يجني عليك، سماحةً لا كظمًا، ومودَّةً لا مصابرةً”. وقال ابن القيِّم في ذلك: “هذه الدَّرجة أعلى ممَّا قبلها وأصعب؛ فإنَّ الأولى تتضمَّن ترك المقابلة والتَّغافل، وهذه تتضمَّن الإحْسَان إلى مَن أساء إليك، ومعاملته بضِدِّ ما عاملك به، فيكون الإحْسَان والإساءة بينك وبينه خُطَّتين فخُطَّتك: الإحْسَان. وخُطَّته: الإساءة. وفي مثلها قال القائل:

إذا مرِضْنا أتَيْناكم نَعودُكمُ        وتُذْنبون فنَأْتيكم ونَعتذرُ

ومَن أراد فهم هذه الدَّرجة كما ينبغي فلينظر إلى سيرة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مع النَّاس يجدها بعينها”.

  • الإحْسَان في الكلام: قال تعالى: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، قال ابن كثير: “يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباد الله المؤمنين، أن يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلام الأحسن والكلمة الطَّيبة؛ فإنَّهم إذا لم يفعلوا ذلك، نزغ الشَّيطان بينهم، وأخرج الكلام إلى الفعال، ووقع الشَّرُّ والمخاصمة والمقاتلة، فإنَّ الشَّيطان عدوٌّ لآدم وذرِّيته مِن حين امتنع مِن السُّجود لآدم، فعداوته ظاهرة بيِّنة؛ ولهذا نهى أن يشير الرَّجل إلى أخيه المسلم بحديدة، فإنَّ الشَّيطان ينزغ في يده، أي: فربَّما أصابه بها”.
  • الإحْسَان في الجدال: قال الله تبارك وتعالى: (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، قال الشَّوكاني: “أي: بالطَّريق التي هي أحسن طرق المجادلة. وإنَّما أمر -سبحانه- بالمجادلة الحسنة لكون الدَّاعي محقًّا وغرضه صحيحًا، وكان خصمه مبطلًا وغرضه فاسدًا”. حتى مع غير المسلمين (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن).
  • الإحْسَان إلى الحيوان: ومِن الإحْسَان إلى الحيوان، إطعامه والاهتمام به، وحدُّ الشَّفرة عند ذبحه، وأن لا يحدَّ الشَّفرة أمامه، وعدم الحمل إليه أكثر مِن طاقته. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله كتب الإحْسَان على كلِّ شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة…)، وكره أبو هريرة أن تُحَدَّ الشَّفرة والشَّاة تنظر إليها، وروى أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا أضجع شاة، فوضع رجله على عنقها، وهو يحدُّ شَفْرته، فقال له صلى الله عليه وسلم: (ويلك، أردت أن تميتها موتات؟ هلا أحددت شَفْرتك قبل أن تضجعها)، وكان عمر بن الخطَّاب ينهى أن تُذْبَح الشَّاة عند الشَّاة. قال ابن رجب: “والإحْسَان في قتل ما يجوز قتله مِن النَّاس والدَّواب: إزهاق نفسه على أسرع الوجوه، وأسهلها. وهذا النَّوع هو الذي ذكره النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، ولعلَّه ذكره على سبيل المثال، أو لحاجته إلى بيانه في تلك الحال، فقال: (إذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة)، والقِتْلة والذِّبْحة -بالكسر- أي: الهيئة، والمعنى: أحسنوا هيئة الذَّبح، وهيئة القَتْل. وهذا يدلُّ على وجوب الإسراع في إزهاق النُّفوس التي يُبَاح إزهاقها على أسهل الوجوه. وقد حكى ابن حزم الإجماع على وجوب الإحْسَان في الذَّبيحة”.

وقال صلى الله عليه وسلم: (عُذِّبت امرأة في هرَّة سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النَّار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل خَشَاش الأرض).

  • الإحسان في معاملة المطلقات أو من ينوي طلاقهن: قال تعالى: (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء … متاعا بالمعروف حقا على المحسنين)، وقال تعالى: (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)..
  • الإحسان مفتاح العلاقات الاجتماعية: قال تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها).
  • الإحسان في العلاقات الاقتصادية: (وأحسن كما أحسن الله إليك).

وفي الختام… قال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: (مَنْ أَحْسَنَ فِي الإِسْلاَمِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الإِسْلاَمِ أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِرِ).

وصدق علي رضي الله عنه عندما قال: (الناس أبناء ما يحسنون).

(إن رحمت الله قريب من المحسنين)..

محبكم / خالد حسن عبد الكافي

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نصرة المظلوم